المرحوم محمود الشبعان: علم من أعلام التربية والأدب والاجتهاد

المرحوم محمود الشبعان: علم من أعلام التربية والأدب والاجتهاد

المربي الفاضل المرحوم محمود الشبعان ناضل منذ فجر الاستقلال لتركيز النظام التربوي وتعميم التعليم بجهات نائية. والذي اضطلع بمسؤوليات عدة في ميدان البحث التربوي والانتاج البيداغوجي والعمل الصحفي. وأسهم في العديد من المنظمات والهيئات داخل البلاد وخارجها وأثرى المكتبة المدرسية والتربوية والدينية بمنشوراته وتآليفه. كان دائم البحث والتنقيب في ميادين عدة، ومثابرا على العمل والبذل الى أن توفي في 3 نوفمبر 1983.

مولده ونشأته
ولد المرحوم محمود الشبعان في 15 أفريل 1928 بطبلبة في أسرة متواضعة تمتهن فلاحة الأرض أبا عن جد. وكان الصغير مثال الاستقامة في السلوك فقد عرف بانضباطه منذ الصغر وعدم تعديه بأية حال الطرق المسلوكة والمعروفة في الدين والأخلاق والمعاملات غرس فيه الشغف بالمعرفة والتطلع الى الأفق الواسع والحنين الدائم الى المجهول وقد عرفه كل من اتصل به بذكائه الحاد وامتيازه على أقرانه بالمدرسة" (1).

دراسته ونشاطه
بدأ محمود الشبعان حياته الدراسية كغيره من أقرانه في تلك الفترة بالدخول الى الكتاب ثم الى المدرسة الابتدائية بطبلبة سنة 1936 والمعهد الصادقي بتونس سنة 1942 ومدرسة ترشيح المعلمين بتونس سنة 1945 وجامعة "سوذرن" بكاليفرنيا سنة 1957 ودار المعلمين العليا سنة 1962 .لقد كان محمود الشبعان مثالا للتلميذ والطالب الممتاز والناجح بشهادة أساتذته ومنهم المرحوم الفاضل الجمالي حيث يقول " قدمت تونس للتدريس في الجامعة التونسية سنة 1962 وكان رحمه الله من أوائل طلابي الممتازين كنت أقرأ أوراق الامتحان النهائي وهي تأتينا بأرقام سرية لا تحمل اسم الطالب فمررت بتلاوة ورقة ممتازة نالت مني درجة عالية تعرفت على صاحبها واذا به الأستاذ محمود الشبعان" (2) . و من بين الشهائد العلمية التي تحصل عليها: البروفي العربي وشهادة ختم التربص للمعلمين ودبلوم جامعة "سوذرن" كاليفرنيا ومقبول في مناظرة المتفقدين الجهويين وشهادة الدراسات العليا في علم النفس التربوي.
وقد تقلد المرحوم محمود الشبعان العديد من المسؤوليات وكان من مؤسسي بعض المجلات والجمعيات والجامعات، فعمل معلما بالأرياف التونسية ومدير مدرسة ابتدائية ومتفقد التعليم الابتدائي ومتفقد جهوي للتعليم الابتدائي ومدير تربص بترشيح المعلمين ومسؤول عن مكتب البحوث البيداغوجية ورئيس تحرير مجلة "النشرة التربوية" ومدير عام للتعاضدية التونسية للتعليم العصري. وقد أسس مجلة "الرياض" ومجلة "المدرسة المفتوحة" ودار العلماء للنشر والتوزيع. وكان من مؤسسي ودادية المتفقدين والجامعة الدولية لحركات المدرسة العصرية وحركة المدرسة العصرية بتونس وعضو مؤسس لجمعية أحباء "فريني" كما كان عضوا بالهيئة الاستشارية للمغرب العربي في التربية والتعليم والجامعة الافريقية لمنظمات التعليم العصري.

شخصيته وخصاله
لمعرفة بعض جوانب من شخصية المرحوم محمود الشبعان اعتمدنا شهادة بعض من عرفوه وعاشروه منذ أن كان تلميذا ثم معلما ثم طالبا بالجامعة التونسية ثم متفقدا للتعليم الابتدائي ومما جاء في حديث الأستاذ محمد فرج الشاذلي عن اليوم الذي تعرف فيه لأول مرة عن المرحوم محمود الشبعان سنة 1945 بمدرسة ترشيح المعلمين ببطحاء الخيل بتونس لقد" لفت نظرنا هذا الشاب الذي بدا لنا من أول وهلة وكأنه خارج عن الألف والعادة. ومرت الأيام...فاذا بهذا الوجه الشاب الغريب الذي أثار فضولنا يبدي للجميع أنه ليس لين العريكة ولا سهل المراس! ولقد كان صافي الذهن واضح الرؤية معتدا بنفسه مجتهدا في عمله متحديا للصعاب مصرا على وجهة نظره...لا يعرف الكلل و لا الملل محرجا من معه من زملائه وأساتذته ثائرا على الأوضاع المألوفة والطرق المعبدة..." (3).ومما جاء على لسان أستاذه المرحوم فاضل الجمالي لما كان طالبا بدار المعلمين العليا بتونس "ان الأستاذ محمود رحمه الله عرف بالجد والحماس وحب الاطلاع على الجديد في التربية انه كان نشيطا غيورا معطاء يحمل رسالة الحب والاخلاص لأمته وللجيل الجديد" (4).ومن ربطته بالمرحوم علاقة عمل السيد عامر اسماعيل الذي يقول" أجده صافي الذهن واضح الرؤية معتدا بنفسه, جريئا, شجاعا, مصرا , داعيا الى تكسير القيود تواقا الى الخروج عما ألفه الناس سواء فيما كان يقوم به من عمل تربوي أو في أسلوب تحليله لما يدور في المدرسة والمجتمع مما دفعه الى اختيار التحدي مبدأ في مواجهة الصعاب وشق المسالك الوعرة الشائكة والنضال قيمة لتغيير الأوضاع وتطويرها" (5). وممن عاشر المرحوم محود الشبعان وعمل معه في الحقل التربوي السيد علي سليمان والذي يقول في تعليقه على بطاقة بعث بها المرحوم اليه مرفوقة بنسخة من كتابه " أين من القرآن تراجم القرآن" أهداها اليه "أنها (البطاقة) من مظاهر الأنفة وعزة النفس" (6)التي عرف بهما المرحوم.

آثـــاره
لقد أثرى محمود الشبعان المكتبة التونسية التربوية والدينية بمنشورات وتآليف عديدة فاقت الخمسين كتابا في ميادين شتى : في التربية عموما وفي أساليب التعلم وتآليف مدرسية وكتب للأطفال وأخرى دينية و التي منها :
-المدرسة العصرية -ميزات المدرسة العصرية
-صحة الطفل (معرب من أليز فريني) -حول صحة الطفل
-التراتيب المدرسية -في أحكام الطهارة والصلاة
-في الصوم والزكاة -في الحج والعمرة والزيارة والأضحية والنذر واليمين
-الحج والعمرة والزيارة خطوة خطوة -على التحجر والتمتيع مع الفقهاء
-أين من القرآن تراجم القرآن؟
-سلسلة العبادات ميسرة: تعال, تطهر , وصل
سلسلة: السيرة ميسرة: البيت الحرام -وانك لعلى خلق عظيم-في سبيل الحق-ان مع العسر يسرا
-المستضعفون العظماء
-سلسلة: كفاح الانسان:- الانسان قبل التاريخ- غنفان الطفل البربري
-سلسلة العلوم مبسطة: - تعلم واعمل
-سلسلة من وحي الخيال:- درغوم- حمراء حمراء
-جوامع الكلم-كتاب الله مفتوح

محمود الشبعان المربي
انخرط المرحوم في سلك التربية والتعليم فعمل معلما ومدير مدرسة ابتدائية ومتفقدا للتعليم الابتدائي ثم متفقدا جهويا حيث "ناضل في فجر الاستقلال لتركيز النظام التربوي وتعميم التعليم بجهات نائية ثم اضطلع بمسؤوليات أهم في ميدان البحث التربوي والانتاج البيداغوجي فكان من بين الذين جددوا الكتاب المدرسي وبعثوا النشرة التربوية وأثروا المكتبة المدرسية" (7).

فلسفته التربوية
" ان فلسفة التربية التي كان يدعو اليها المرحوم هي فلسفة بناء وتجديد وانفتاح لا فلسفة نسف وهدم وانغلاق انه لا يتعصب لمذهب معين أو مدرسة معينة انه يقول عن نفسه " لم نكن مرتبطين بأي مذهب من المذاهب سوى الحرص على النجاعة والتعلق الشديد بالمثل القومية والانسانية التي نريد أن تتكفل المدرسة بتدعيمها وتبليغها"(
😎
. ومن ذلك كان يدرك أتم الادراك أن" التكوين لا يعطى بل يكتسب ولا يكون ذلك الا من خلال المشاركة والنشاط اذ هما المقومان الأساسيان للتربية بهما يرتقي الانسان الى الاستقلالية الفكرية والترشيد الذاتي ويبتعد عن الاستهلاك المجاني والتواكل المضر ويصبح مسؤولا وينشأ على حب العمل وقيم الخير والجمال وتتمكن منه روح التسامح والاعتدال فتصبح فضائل لا بد منها ليقبل على غده برصانة العارف وحكمة العاقل" (9).

التجديد في التربية
كان المرحوم محمود الشبعان يسعى دائما الى التجديد في شتى الميادين وخاصة في التربية ولا يكتفي بالتنظير ولكنه يسعى جاهدا الى التطبيق العملي دون ملل ولا تردد من أجل تطوير العمل التربوي فمارس الطرق العصرية وشجع المربين على تطبيقها ونشرها فكان حسب شهادة من عرفه من زملائه" يمتلئ حيوية وحركية لا ينفك عن البحث والتنقيب عن الجديد والتجديد في كل الميادين وخاصة هواية الدرس والمطالعة والكتابة في كل ميدان طريف وخصوصا ما يتصل بالتربية والتعليم" (10).فقد" أسهم الى حد بعيد في تطوير النظريات التربوية اذ كانت هذه الأخيرة تتفق مع الأساليب التربوية التي ناضل من أجل نشرها روحا ومحتوى ومقاربة" (11).

المدرسة العصرية
لقد تأثر المرحوم محمود الشبعان بطريقة "المدرسة العصرية" طريقة "سيلستان فريني" منذ ان كان طالبا بمدرسة ترشيح المعلمين وخاصة في السنين الأولى للتدريس " فتعلقت همته بالبحث والتعمق في طريقة "فريني" وتعرف على صاحبها وعلى مسيرته وتجاربه في ميدان التربية والتعليم واطلع على كتاباته وكتابات زوجته حول الطفل وخصائصه وتربيته وشارك في بعض تربصات المدرسة العصرية وتعرف على عديد الشبان الذين يلتفون حول فريني ويتبعون خطاه ويساعدونه في تجاربه ويجتهدون معه في تحسين جدوى الطريقة وأساليبها ويبتكرون تحت قيادته وارشاده. وأصبح المرحوم محمود الشبعان يشارك بانتظام في تربصات "المدرسة العصرية" مدرسة "فريني" وندواتها التي تلتئم مرتين أو أكثر في السنة بمناسبة العطل المدرسية في جهات مختلفة من فرنسا وخارج فرنسا للتعرف على ما يجد من تجارب وابتكارات في الأساليب والوسائل والأدوات وكذلك للتعريف بالمدرسة العصرية في صفوف رجال التعليم وكسب أنصار لها بينهم وقد أصبح المرحوم محمود الشبعان عضوا نشيطا في المدرسة العصرية"(12).بل يعتبر رائد المدرسة العصرية بتونس ومما جعله يعتبر كذلك هو " أنه استعمل " المدرسة العصرية" في التعليم باللغة العربية وهو أمر كان يحتاج الى عظيم جهد وقوة ارادة ...وهو ما يستحق أن يكتب له بماء الذهب" (13).

المدرسة المفتوحة
بعث محمود الشبعان مجلة خاصة سماها" المدرسة المفتوحة" كان يدعو فيها الى ادخال روح جديدة في أساليب التعليم" (14) . وشاركه في تحريرها ثلة من المربين آمنوا بالمدرسة العصرية آنذاك وتجديد الطرق ووسائل التعليم منهم : محمد هميلة وعبد الله بدر الدين ومحمد الصالح كريم وعبد الرحمان المقراني و الطاهر صفر و علي سليمان وعبد الرزاق البدوي و الهادي قلالة وغيرهم... وقد جعلت هذه المجلة " سلاحا لمقاومة كل أصناف الركون المستكين والتقليد الأعمى ومنبر لمناقشة وبلورة العديد من الأراء والقضايا والمذاهب والطرق التربوية التي ظهرت في العالم وفي تونس. وأداة لإثارة المربين للاطلاع برأيهم في شتى جوانب اصلاح التعليم .... ورابطة لجمع صفوف المتحمسين للتجديد وايجاد قنوات اتصال بينهم وشد أزرهم لفرض الاصلاح" (15) وقد تواصل صدور هذه المجلة ثلاث سنوات (سبتمبر 1972 الى 1974).

محود الشبعان الأديب
انطلاقا من ايمانه بأن المكتبة المدرسية تعد من أفضل الوسائل لتنمية ميل الأطفال الى القراءة. فقد كتب المرحوم محمود الشبعان للأطفال وأثرى المكتبة المدرسية بكتب المطالعة للأطفال. "وكان في كل ذلك مجددا عاملا على تكوين الفكر الدقيق والتعبير الأنيق بارزا في اثراء المكتبة المدرسية بما أضفاه عليها من الخصب والنماء" (16). ومما ألفه للأطفال سلسلة من وحي الخيال وسلسلة كفاح الانسان.

محمود الشبعان المفكر والمجتهد
لم يقتصر نشاط المرحوم محمود الشبعان على الميدان التربوي بل" عمل على صقل القيم الذكية في ميدان الفقه والعبادات وفي ميدان تطهير العقيدة من الشوائب وجعل المفاهيم التي كانت تبدو حكرا على القلة المفقهة تصل الى فهم كل راغب في المعرفة" (17).فكانت تجربة تجديدية أخرى اذ أنها " دعوة الى الاجتهاد ونداء لامعان العقل والتبصر لإبعاد ما علق بالأذهان من الأوهام والبدع ونقد لتراجم القرآن" (18).وذلك من خلال ما كتب في آخر سني حياته من كتب " تعتبر من المراجع الهامة ولها وزنها في الدراسات الفقهية على مذهب الامام مالك والدراسات القرآنية" (19) وهي على التوالي: الموسوعة الفقهية "الجامع الميسر" و"أين من القرآن تراجم القرآن؟" وكتاب " على التحجر والتميع ومع الفقهاء" وبذلك " واصل المرحوم اجتهاد الدعاة الهداة المربين الرادة والمفكرين القادة الذين أنجبتهم تربة هذا الوطن العزيز" (20).
لقد كان المرحوم محمود الشبعان نبعا لا يجف من العلم والمعرفة" أفنى العمر كله في العمل الرائد والبحث والتجديد فارتفع بالفكر التربوي التونسي الى سماء الحضارة الانسانية" (21).كما أن " مظاهر التحديث التي تتمتع بها المدرسة التونسية اليوم في برامجها وفي طرقها وأساليبها انما يرجع الفضل فيها بدون منازع الى الدفع الكبير الذي قدمه محمود الشبعان منذ عقود"(22) .فلا غرابة أن نرى في المستقبل القريب -وهو أبسط وجوه الاعتراف له بالجميل-اسمه يطلق على أحد المؤسسات التربوية في مسقط رأسه أو على بعض التظاهرات المحلية والوطنية والجوائز ونحوها.
لطفي جمعة

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال